بقلم: أيمن المصري
اعتدنا عند كلِّ مَوْسمٍ رياضيٍّ أن يطالعنا بعض الدعاة والعلماء - الذين نُجلّ - بالتقريع والترويع لما يجري، بسبب تعلُّق شبابنا بمتابعة المباريات الرياضيَّة، ليصل التهويل في النهاية إلى طرح نظريَّة المؤامرة.. المؤامرة التي يهدف من خلالها الغرب إلى إفساد شباب أمَّتنا.
وهذا بالضبط ما نعايشه هذه الأيام في مونديال كأس العالم.
وليسمح لي القارئ أن أتطرق للنقاط التالية:
1- لماذا يصرُّ بعض دعاتنا على تكريس حالة الانفصام في الشخصيَّة، فيتنكرون في خطابهم الدعويِّ لحاجات النفس البشريَّة، كممارسة الفنون واللهو المباح؟ فينكرون علينا ممارسة هواياتنا المفيدة والمباحة التي فطرنا الله عليها ؟ أليست المطالعة هواية، كما تصفُّح الإنترنت، كما متابعة أخبار كأس العالم.. ما دامت ضمن الضوابط الشرعيَّة ؟ ألم يمارس الأحباش هوايتهم باللعب في المسجد، ثمَّ نفَّذ رسول الله صلى الله عليه وسلم رغبة زوجته عائشة رضي الله عنها بالسماح لها بالتفرُّج عليهما؟
وأقتبس كلاماً للشيخ الدكتور يوسف القرضاوي في كتاب "الإسلام والفن" يقول فيه: الإسلام دينٌ واقعيّ، يتعامل مع الإنسان كلِّه: جسمه وروحه وعقله ووجدانه، ويطالبه أن يغذِّيها جميعاً بما يشبع حاجتها، في حدود الاعتدال.
2- لماذا يحاول بعض الدعاة إخراج أنفسهم من دائرة بشريَّتهم، وكأنَّ الله قد نزَّههم من رغبات النفس في اللهو والترويح عن النفس، ونراهم ينظرون إلى من يفعل ذلك نظرة الطبيب المشفق على حالة مريضه ؟ أليس رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القائل: "يا حنظلة ساعة وساعة" رواه مسلم.
3- لماذا يصرُّ بعض دعاتنا على تقديم صورة المجتمع المسلم على أنَّه فقط "مجتمع عبادةٍ وجدٍّ وعمل، فلا مجال لمن يلهو ويلعب، أو يضحك ويفرح، أو يغنِّي ويطرب"؟ والكلام للشيخ القرضاوي.. لماذا نصرُّ على تقديم صورة المسلم مقطِّب الجبين عابس الوجه؟ كلُّ ذلك بذريعة حمل هموم الأمَّة والتأثُّر بالأحداث الجسام التي تمرُّ بها.
4- وإذا شئنا أن نقيِّد حركة حياتنا بأحداث أمَّتنا، فأنا أسأل: متى سلمت أمَّتنا من النوازل والأحداث الجسام، منذ عصر تأسيس الدولة الإسلاميَّة وما حدث بعدها من فتنٍ وحروب إلى يومنا هذا؟ هل تتوقَّف الحياة نتيجة هذا؟
5- أمَّا عن التعصُّب لفريقٍ أو دولة، فأقول: لقد جعل الله تعالى في النفس البشريَّة غريزة حبِّ الانتماء للمنشأ، ولمَّا جاء الإسلام لم يلغِ هذه الغريزة، لأنَّه دينٌ واقعيّ، بل طلب تهذيبها وجعلها في المرتبة الثانية بعد الإيمان.. فلننظر إلى تقسيم جيش المسلمين في المعارك: الأوس تحت رايتهم، والخزرج تحت رايتهم… ثمَّ نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوجَّه بحديثه إلى الأنصار ثمَّ إلى المهاجرين؟ وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لمكَّة – في حديث رواه الترمذي وصححه – وهو واقف على راحلته بمكة: "والله إنَّك لخير أرض الله، وأحبُّ أرض الله إليَّ، ولولا أنِّي أُخرجت منك ما خرجت". وروى الترمذيُّ وصححه أيضاً عن ابن عباس: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لمكة: "ما أطيبك من بلد، وأحبَّك لي، ولولا قومك أخرجوني منك ما سكنت غيرك".
فما الضير لو تحمَّس المسلم لبلده أو قارَّته في مباريات معيَّنة؟ ومن باب أولى أن يتحمَّس لمنتخب بلدٍ مسلمٍ ضدَّ منتخب بلدٍ آخر، كما حصل عندما اعتبر السنغاليُّون تشجيع منتخبهم واجباً وطنيّاً في مواجهة منتخب الدولة التي استعمرتهم، فرنسا.
6- من قال: إنَّ الرياضة محصورةٌ بألعاب القوى، أو أنَّها جُعِلَت لتقوية الجسد وتهذيبه فقط؟ ألا يمكن أن يتعارف أهل بلدٍ على لعبةٍ رياضيَّةٍ معيَّنة، دون أن يكون الهدف منها تقوية الجسد، بل هي وسيلة ترفيهٍ ومتعة.. ما دامت ضمن الضوابط الشرعيَّة، فما المانع؟
7- أمَّا أنَّ متابعة مباريات كأس العالم تضيِّع الصلاة وتشغل عن الذِّكر، فأقول: ما الفرق بين متابعة مباريات كأس العالم وبين التسمُّر ساعاتٍ أمام شاشة التلفزيون أو الإنترنت، أو الإسراف في الخروج اليوميِّ لممارسة رياضة السباحة مثلاً؟ أليس كلُّ هذا يشغل عن الذِّكر وقد يؤخِّر الصلاة ؟ لماذا نرفض الفكرة إذا حصل تطرُّفٌ في الممارسة؟
8- وأخيراً أصل إلى التهمة الممجوجة.. التآمر.. كلُّ ما يحدث للمسلمين هو مؤامرةٌ من الغرب لإفساد أمَّتنا وشبابنا بشكلٍ خاصّ.. فالإعلام الفاسد يوجِّهه الغرب ليفسد شبابنا وبناتنا ليضلُّوهم عن دينهم.. لقد خطَّطوا لتكون مباريات كأس العالم هذه الفترة بالذات ليشغلوا طلابنا عن امتحاناتهم.. أو ليشغلوا المسلمين عمَّا يدور!
بالله عليكم، أليس عند أمراء الإعلام الغربيِّ أولئك أبناء ؟ ألا يحرصون أن ينشأ أبناؤهم نشأةً صالحة، مهما كانوا هم فاسدين ؟ أليس عند أبنائهم امتحانات أيضاً، خصوصاً وأنَّ هذا الأمر نسبيٌّ ويختلف من بلدٍ لآخر ولا يتعلَّق بكلِّ شرائح المجتمع ؟ وهل الإعلام إلا انعكاسٌ لحالة المجتمع وتصويرٌ لحركته ؟ وهذا واضحٌ جليٌّ في حركة الأفلام العربيَّة، حيث تأثَّر الفنِّ السينمائيِّ بالظروف التي يحياها المجتمع، إن لم يكن متواطئاً في عددٍ كبيرٍ من أفلام بما يخدم الأنظمة الحاكمة والنظريَّات المستوردة حول ظواهر العنف والإرهاب وتحديد النسل وما شابه ذلك.
بعض الموضوعيَّة يا دعاتنا الأجلاء.. حتى لا يصنَّف خطابكم خارج التاريخ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق