5/08/2015

إعلامنا الذي نريد


بقلم: أيمن المصري

يمكن اعتبار التجربة الإعلامية للحركة الإسلامية في عالمنا العربي حديثة عهد، لا سيما في ميدانَي المرئي والمسموع.. ورغم التجارب المحدودة في بعض الأقطار، فإن الحركة لم تعمل حتى الآن – على حدّ علمي - على وضع قواعد ومحددات تضبط أداء مؤسساتها الإعلامية المختلفة، تلبّي احتياجات مشروعها الذي يتوجه إلى مختلف أطياف المجتمع.

ومع أن كل قطر له ظروفه وخصوصياته، سواء لجهة الحريات سقف العامة والمرونة في أخذ الأحكام الشرعية والإمكانات المتوفرة للحركة.. لكن ما يمكن أن يكون قاسماً مشتركاً بين مختلف التجارب، هو تلك الحالة الضبابية في تحديد طبيعة الخطاب الإعلامي الذي يجب اعتماده.

أحاول في هذه الورقة أن أثير نقاشاً هادئاً حول خطاب المؤسسات الإعلامية للحركة الإسلامية، آملاً أن تشكل هذه الأفكار نواة دراسة تأصيلية متخصصة في إعلام الحركة الإسلامية.

وتجدر الإشارة إلى أنني أتحدث هنا عن الإعلام في حالته الطبيعية، وليس المضيّق عليه أو الذي يعيش في بيئة حرب، أو لا يمتلك ترخيصاً قانونياً.


أسئلة لا بد منها
ليس غريباً أن يسعى كل حزب يعمل في الشأن العام ويتبنى مشروعاً لامتلاك منبر إعلامي، لما لوسائل الإعلام من قدرة كبيرة على التواصل مع الجمهور والترويج للفكرة.. لكن ثمة أسئلة مفصلية يجب الإجابة عليها عند التخطيط لإنشاء وسيلة إعلامية (مرئية أو مسموعة أو مكتوبة):

- ماذا نريد من هذا المنبر؟ (الرسالة)
- من نخاطب عبر هذا المنبر؟ (الشريحة المستهدفة)
- ما هو الخطاب الذي سنعتمده في أدائنا الإعلامي: حزبي - ديني – اجتماعي – ثوري...؟

لنبدأ باستعراض خيارات الإجابة على السؤال الأول، تاركاً الخيار الذي أراه الأنسب لمحور "أيّ إعلام نريد" في هذه الورقة.

ماذا تريد الحركة الإسلامية من وسيلة إعلامية تؤسسها في هذه المرحلة؟

1- أن تكون منبراً يدعو إلى الله وإلى الالتزام بأحكامه:
وهنا نقول: ما أكثر المحطات الدينية التي تقوم بهذا الدور، وهي أكثر تخصصاً وقدرة مالية، من فضائيات وإذاعات متخصصة بالقرآن الكريم أو العلوم الشرعية. فأين الإضافة التي ستشكلها هذه المؤسسة الإعلامية؟ وكيف سيؤدي هذا المنبر دور الدعوة إلى الله، فيما أغلب جمهوره من المسلمين، بل الملتزمين؟

أن تكون وسيلة استقطاب (القارئ أو المستمع أو المشاهد) للانضواء في صفوف الحركة:
نقول: هذا لم يرد في أيّ من أدبيات الحركة الإسلامية، والتي لو عدنا إليها لوجدنا الحديث عن "الفرد المسلم، ثم الأسرة المسلمة، فالمجتمع المسلم"، وليس المنتظم في صفوفها. فهل تريد الحركة الإسلامية تأسيس مجتمع "حركيّ" أم مجتمع مسلم يعيش حياته ضمن الضوابط الشرعية التي جعلها الله عزّ وجلّ؟

2- أن تكون وسيلة إخبارية سياسية (صحيفة – إذاعة – تلفزيون) متخصصة:
وهنا نقول: مهما اجتهدت وأنفقت هذه المؤسسة الإعلامية، فهي لن تستطيع منافسة المحطات الإخبارية المتخصصة، التي تمتلك شبكة واسعة من المراسلين وفريقاً محترفاً من المنتجين، وتغطي حركتها إمكانات مالية ضخمة.

3- أن تكون وسيلة تواصل بين قيادة الحركة وصفها الداخلي:
نقول: إذا كانت النسبة الأكبر من متابعي هذه الوسيلة الإعلامية هي من أبناء الحركة، وهم المقتنعون بفكرها ورسالتها.. فما حاجة هذه الوسيلة الإعلامية؟ هل نخاطب أنفسنا؟

وقبل التحدثعن النموذج الأنسب "ماذا تريد الحركة من إعلامها"، أتوقف عند الإجابة على السؤال التالي:

من تخاطب الحركة الإسلامية عبر منبرها الإعلامي؟ 


من نخاطب؟
· أبناء الصف 
· الساحة الإسلامية بمختلف أطيافها
· جمهور الطائفة التي تنتمي إليها الحركة (إذا كان البلد يتميز بتنوّع مذهبي)
· عموم أهل البلد

من الضروريّ جداً تحديد الشريحة المستهدفة، حيث يبنى عليه بعد ذلك طبيعة الخطاب، فكل فئة لها خطابها المختلف. ولا يفوتنا أن تحديد الشريحة المستهدفة يجب أن ينطلق من تصنيف هذه الحركة: هل هي تنظيم نخبوي منغلق (لظروف معينة)، أو تحمل صفة دينية وينحصر مجال عملها بساحتها الدينيّة؟ أو هي تمارس العمل العام (ومنها السياسة) فتتلاقى مع مختلف أطياف المجتمع في قضايا وطنية واجتماعية ومعيشية وسياسية... الخ.

وغنيّ عن القول أن من أكثر الأخطاء التي يمكن أن ترتكبها وسيلة إعلامية هي أن تخاطب نفسها، فتحمل الرسالة لمن يتبنى في الأصل هذه الرسالة.

من الصعوبة وضع قاعدة ثابتة تسري على مختلف الأقطار، أو حتى مختلف وسائل الإعلام في البلد الواحد. لكن لو أردنا أن نأخذ الحالة اللبنانية نموذجاً، فإنه يمكن القول أن الشريحة المستهدفة بالدرجة الأولى هي "المسلمون السنّة" في لبنان، بملتزميهم وغير الملتزمين، وهي البيئة الحاضنة للحركة الإسلامية، ويأتي في الدرجة الثانية مختلف أطياف وتنوعات الساحة الإسلامية. ومعلوم أن الحالة اللبنانية فريدة بالتنوّع الطائفي والمذهبي، حيث يشكل لبنان عدة مجتمعات داخل بلد واحد.

لا بدّ من التوقف عند دور الإعلام في خدمة مشروعنا الإسلامي، في محاولة للإجابة على سؤال: ماذا تريد الحركة الإسلامية من وسيلتها الإعلامية؟


أيّ إعلام نريد؟
ثمة مفاهيم يجب أن تكون واضحة لدى إدارة المشروع الإعلامي في الحركة الإسلامية، وفي مقدّمها: ما هو دور "الإعلام الإسلامي" في مجتمعاتنا؟

قد يفهم البعض من مصطلح "الإعلام الإسلامي" أنه ذاك الإعلام الديني المتخصص، الذي يترجَم بالتلاوات القرآنية والفتاوى والأحاديث النبوية والبرامج الدينية وقصص الصحابة وتفسير القرآن الكريم والمسلسلات التاريخية.

يعتبر د. عبد القادر طاش هذا التوصيف "مجحفاً وغير منطقيّ، ويحجّم هذا الإعلام ويفصله عن الواقع"، ويرى أن لهذه النظريات "أثراً خطيراً في حياة المسلمين؛ لأنها تفصل الإعلام بنشاطاته الواسعة وممارساته المتنوعة عن الهدي الإسلامي، وكأن هذا المفهوم يقترب من المفهوم الغربي العلماني في فصل الدين عن الحياة".

وعليه نقول: لا يمكن لنا أن نعيش هذه الحالة من الازدواجية في ممارساتنا اليومية، فينحصر إعلامنا في الشؤون التعبدية الدينية والروحية فقط، فيما نتحول إلى وسائل الإعلام الأخرى (الموجّهة أو غير الموثوقة أو غير المنضبطة) في بقية شؤون حياتنا، من السياسة إلى المعاملات المالية إلى الترفيه إلى الثقافة... الخ.

وهنا أستحضر النظرية الدعوية للدكتور محمد أحمد الراشد والتي أسماها "صناعة الحياة"، يدعو فيها إلى "منح العمل العام أهمية أكبر، والنزول إلى ساحة المجتمع وعموم الناس ما أمكن، ومحاولة ترك العزلة والانطواء فى المجتمع الخاص".

إن المجتمع ينتظر من العاملين للإسلام أن يحملوا وجع الناس، يخدموهم ويخففوا عنهم، لا أن يثقلوا عليهم بالوعظ والتوجيه...

مطلوب من إعلامنا أن يكون نبض الناس، فيسلط الضوء على مشاكلهم وقضاياهم المطلبية الاجتماعية والمعيشية والتربوية... الخ، وهذا الإعلام يعترف بالجمال والفنون واحتياجات النفس البشرية.

إن ما اصطلح على تسميته "الإعلام الإسلامي" ليس كلية شرعية ولا مسجداً للتربية، بل هو جزء من حياتنا اليومية التي نعيش، بأفراحنا وأتراحنا ووجعنا وقضايانا.

نريد الإعلام الذي يساهم في تعزيز مفاهيمنا الفكرية والدينية بأسلوب ممتع غير مباشر، ويؤدي رسالة متوازنة من خلال البرامج السياسية والثقافية والاجتماعية والدينية.

.. الإعلام الذي يستشعر المسؤولية الكبيرة في هذه المرحلة التي تجري فيها شيطنة المشروع الإسلامي وتشويه صورة العاملين له، فيعرض الإسلام بصورته المشرقة، ويؤكد أن الالتزام بتعاليم الإسلام لا يعني العنف أو الإرهاب، وأن الإسلام دين سمح يحب الخير للجميع، ويدعو لحب الوطن والاندماج الإيجابي فيه، ويشدّد على قيمة الإنسان والحريات والعدل، وأننا كملتزمين دينياً نلتزم قوانين الدولة التي نعيش فيها ومؤسساتها، العسكرية والسياسية والاجتماعية...

.. إعلام يعمل على تنمية الحسّ الوطني لدى المواطنين، ويساهم في إعادة سلطان القيَم إلى المجتمع، وتغذية الوازع الديني في النفوس.

ليس مطلوباً من إعلامنا أن يعلّم الناس أمور الشرع وحدودها، بل أن يعينهم في شؤون حياتهم بما لا يخالف الشرع. وإذا كانت الحركة الإسلامية تتبنى شعار "القرآن دستورنا"، فإن ترجمته العملية هي في تطبيق أحكام هذا القرآن على مختلف شؤون الحياة، وليس الاقتصار بث الآيات القرآنية، على فضلها.

نحتاج إعلاماً يتبنى قضايا أمتنا العادلة، ويحقق قول النبي صلى الله عليه وسلم "من أصبح ولم يهتمّ بأمر المسلمين فليس منهم".. على أن يكون الهمّ المحلي والخطاب المحلي هو الأساس.

وأذكر هنا مقولة للمفكر الشيخ راشد الغنوشي يعبّر فيها بشكل مبسّط للمشروع الإسلامي: "نحن لا نمثّل الإسلام، أقصى ما نريده هو دكّانٌ نعرض فيه بضاعتنا، في هذه السّوق الحرّة".

وقبل أن أنتقل لفقرة الخطاب الواجب اعتماده، أود أن أتوقف قليلاً عند مصطلح "الإسلامي" في حديثنا عن الإعلام.


ماذا تعني "الإسلامي"؟
هل نعي أن هذه التصنيفات تساهم في عزل أصحاب المشروع الإسلامي عن مجتمعهم، وتغذي حالة انفصالنا نحن الملتزمين عن مجتمعاتنا؟ وكأننا فئة من خارج النسيج الاجتماعي لأهل البلد؟ أو كأن لنا عالماً خاصاً (فن إسلامي – إعلام إسلامي – اقتصاد إسلامي...).

أصحاب المشروع الإسلامي هم جزء من المجتمع، وإذا أساء البعض استخدام الفن – مثلاً - فتحول هابطاً، فهذا لا يعني أن أنفصل عنه وأشكل قسماً خاصاً للفن الإسلامي، أو إطاراً للإعلام الإسلامي.. كلانا يؤدي رسالة إعلامية، فإن تجرد هو من القيم والضوابط، فنحن لا نفعل. هذا هو الفرق فقط. وكلانا يندرج عملنا في الإعلام.

وأسأل: هل "الإسلامي" هو في الشكل أو المضمون؟ فحين نقول نريد المجتمع الإسلامي، هل يعني هذا أن يتحول أهل البلد إلى رجال دين، وإشارات السير يتحول شكلها إلى مآذن، ورنات المنبه باتت صلاة على النبي أو أذاناً؟ بالتأكيد لا.

يمكن أن يندرج تحت "الإسلامي" كل ما لا يتعارض مع الضوابط الشرعية. كل إعلام يخدم القيم والأخلاق هو يخدم رسالة الإسلام، وكل إعلام يخدم المجتمع فهو يخدم الفكرة الإسلامية.

دعونا نتحدث إذن عن الإعلام المجتمعي الملتزم بالضوابط الشرعية، أو هو إعلام القيم أو الإعلام الملتزم.. الملتزم برسالة. ولنخرج من عزلة "الإسلامي".

والآن ننتقل إلى النقطة الأخيرة والأهم وهي: ما هو الخطاب الذي يجب أن تتبناه المؤسسة الإعلامية التابعة لحركة إسلامية.


في خطابنا الإعلامي
سأحاول الإضاءة على عدة أفكار، دون الالتزام بمنهجية محددة، أرى أنه لا بدّ من التوقف معها عند الحديث عن خطاب المؤسسات الإعلامية للحركة الإسلامية:

1- الحركات الإسلامية تربي أفرادها على مفاهيم وقيم معينة، هي تربية خاصة لفئة خاصة من الناس، كي تعينهم في حمل عبء الدعوة وتحمّل مشاقها، سواء في الجانب التربوي أو التعبدي أو البدني، لكن الحركة في خطابها الدعوي العام (لاسيما عبر إعلامها) لا تسعى لتأسيس جيل حركيّ يحمل هذه المواصفات، بل لإنشاء جيل مسلم. علينا أن نعيَ حين نخاطب الجمهور العام أن "المجتمعات ليست هي الإسلاميين الحركيين، فليس كل المسلمين مؤمنين بتلك الأفكار، ولا غير المسلمين يطربون لتلك الهيمنة"، يقول د. جاسم سلطان. فما نطلبه لأنفسنا لا يحق لنا أن نلزم به الآخرين، ولا نتوقع أن يهتمّوا له.

2- كما سبق أن قلنا، إن الخطاب الحزبي المباشر لم يعد مقبولاً في عصرنا الحالي وهو لا يخدم الرسالة بل يدفع الجمهور إلى النفور منها. ورغم أن معظم المحطات الإعلامية لها خلفيات سياسية أو فكرية، لكن عليها أن تؤدي رسالتها بدهاء محترف، إلا في الملفات التي تتطلب موقفاً صريحاً واضحاً. وكلما نجحت المؤسسة الإعلامية "الحركية" بالتجرد من خلفيتها الحزبية دون أن تفقد هويتها، نجحت في كسر حواجز واختراق شرائح جديدة من الجمهور.

3- "لا يكفي أن تقول الحركة الإسلامية بأنها تطالب بالعودة إلى الإسلام كنظام وأن هذا هدفها، فالجمهور يسمع هذا الكلام من الجميع"، والكلام للدكتور عبد الله النفيسي. وهنا يكون الإعلام (لاسيما الإذاعي والتلفزيوني) فرصة للحركة كي تترجم هذا الشعار عملياً من خلال برامجها، حيث تتناول مختلف شؤون الحياة، بمختلف تفاصيلها اليومية.

4- على المؤسسة الإعلامية أن تتناغم في خطابها مع المشروع الذي تحمله الجهة المالكة، وهنا نتحدث عن الحركة الإسلامية، فالمؤسسة الإعلامية هنا تعكس المشروع الإسلامي بقوالب متنوعة بحسب طبيعة الوسيلة الإعلامية. وليس من الطبيعي أن تغرّد الوسيلة الإعلامية على هواها فيما التوجه الفكري – مثلاً – للحركة في مكان آخر. فإذا كان خطاب الجماعة يدعو إلى التعايش مع أفرقاء الوطن والتمسك بمؤسسات الدولة والمواطنة، فلا يمكن أن يكون خطاب مؤسستها الإعلامية يدفع إلى العزلة المجتمعية!

5- إذا كانت الحركة الإسلامية في مراحل وأقطار معينة قد مرّت بأزمات ومحَن، وواكبتها أدبيات اصطلح على تسميتها "أدب المحنة".. هذا الواقع يجب أن لا يأسرنا في خطابنا الدعوي والإعلامي. وإذا كانت هذه المآسي تعني أبناء الحركة الإسلامية، فلا يجب بمكان أن نفرض "ثقافة المحنة" على جهمورنا العام. وبمعزل عن نظرية تجاوز التاريخ وعدم التقوقع فيه، فإنه يجب على الإعلام أن يخاطب جمهوره بما يعنيه. 

6- والأمر نفسه في ما يخص ظروف الحروب التي مرت بها أمتنا، في لبنان أو فلسطين أو أفغانستان أو البوسنة أو سوريا... هذه محطات استثنائية، نتفاعل معها من منطلق الاهتمام بقضايا الأمة، لكنها ليست أصلاً، ولا يجب أن تكون هي الأساس في خطابنا الدعوي، فحالة السلم هي الأساس في الدعوة وليس الحرب. ونحمد الله أن منشدينا قد تجاوزوا "أدب المحنة" في إنتاجهم، فبعد أن كانت الأعراس والحفلات تنشد فيها "ثوار" و"أماه ديني قد دعاني للجهاد وللفدا"، لعدم توفر غيرها، بات مكتبتنا السمعية غنية بفنون الأفراح والزوجة والأم والطفل... الخ.

7- إنّ مسؤولية شرعية تقع على عاتق المؤسسة الإعلامية في خطاب جمهورها، وكل فعل سلبيّ ينتج عن أيّ تحريض ضدّ الدولة أو ضدّ طائفة أو حزب مثلاً، فإن المؤسسة الإعلامية تتحمل مسؤولية هذا العمل شرعاً وقانوناً، ومن خلفها الحركة الإسلامية.

8- من الصعوبات التي تواجه المؤسسة الإعلامية في عملية التخطيط، اختلاف أمزجة الجمهور تبعاً لاختلاف انتماءاتهم الحزبية أو الطائفية أو السياسية، أو حتى المناطقية.. والأصل أن الوسيلة الإعلامية تسعى للوصول إلى مختلف هذه الشرائح. إن إرضاء جميع الأذواق والثقافات غاية لا تدرك، وهذا يعيدنا إلى أهمية تحديد الشرائح المستهدفة، والنسب في توزيعها.

9- أيضاً من الصعوبات التي تواجه المؤسسة الإعلامية النجاح في المواءمة بين الحيادية المطلوبة في العمل الإعلامي وبين الرسالة التي تحملها المؤسسة الإعلامية، انطلاقاً من خلفيتها الفكرية أو السياسية، ما يدفعها للانحياز أحياناً. إن نظرية الحيادية المطلقة هي أكذوبة تدرّسها كليات الإعلام. الحيادية نسبيّة، والتحدي هو في تقديم رسالتك بمهنية.

10- إذا أردنا أن نكون إعلاماً مؤثراً متفاعلاً مع الجمهور (بمختلف أطيافه) ونتحلى بالحدّ المقبول من الحرفية، لاسيما في بلد منفتح ومتنوع كلبنان، إن هذا النمط يتطلب اعتماد مدرسة التيسير في الأحكام الشرعية، ويدعو إلى إعمال الاجتهاد من قبل أهل الاختصاص الشرعي – الإعلامي. ولذلك، لا يستحسن لمن يتولى السياسة التحريرية أو إدارة مؤسسة إعلامية عامة (غير دينية) أن يكون شخصية دينية، الأصل عندها اتقاء الشبهات.

11- إن فضاء حراك الوسيلة الإعلامية أرحب من فضاء الحركة في عملها السياسي، وهذ الميزة يجب أن تستفيد منها الحركة الإسلامية وتبني على ما تشقه لها مؤسستها الإعلامية في تواصلها مع الجهات السياسية والحزبية، وقد يكون منهم خصوم. 

12- إذا كانت الحركة الإسلامية تدعو إلى وحدة الصف والتعاون والتلاقي على الخير، فهذا يجب أن يترجم عملياً في وسائل إعلامها، حيث تفتح الباب لمختلف أطياف الساحة الإسلامية للظهور أو الإفادة من منبرها الإعلامي هذا، وعدم الاقتصار على تصدير رموزها فقط، مع ضرورة أن تستفيد الحركة من هذا المنبر لتدريب رموزها – بمختلف تخصصاتهم - على اللقاءات الإعلامية.

13- بهدف التزام المهنية، تتصدى وسيلتنا الإعلامية لمهمة نقل الخبر بتجرد. لكن علينا أن نعيَ أن القارئ أو المستمع لا يلجأ للاستماع إليك لمعرفة الخبر فقط، بل لمعرفة موقفك من هذا الخبر. فإذا غاب هذا الموقف – ولو بشكل غير مباشر – فقدت الوسيلة الإعلامية دورها ورسالتها.

14- لقد بات متاحاً الإفادة من برامج ومواد صوتية متوفرة بأسعار زهيدة أو حتى مجانية، لدعاة من جنسيات مختلفة، مصرية أو خليجية أو عراقية... يمكن أن تخفف عن إدارة المؤسسة الإعلامية عبء الإنتاج المكلف. لكن علينا هنا أن ننتبه أن اختلاف الثقافات واللهجات بين الشعوب وقد يكون اختلاف بعض الأحكام الشرعية، قد يشكل حاجزاً نفسياً لدى المتلقّي. وقد قال الله تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبيّن لهم). إن هذا التقارب أدعى لأن يتقبله الناس. لذلك، على الوسيلة الإعلامية (المحلية) أن تصنع خطاباً محلياً بلسان محليّ وليس مستورداً، لأنها تخاطب بيئتها المحلية.

15- من واجب إدارة المؤسسة الإعلامية أن تسمع الآراء من مختلف الأطياف، لكن من حقها أيضاً أن تأخذ من هذه الآراء ما يتناسب مع منطلقاتها وأهدافها.


وأختم بالقول، إن كل تجربة لها خصوصيتها وظروفها، بحيث تجعل من الصعب وضع قواعد ثابتة لمختلف الحالات، وهذا ما دفعني إلى تجنّب الأمثلة الواقعية التي قد تنطبق على حالة دون الأخرى.
وهنا أدعو الأعزاء العاملين في الحقل الإعلامي وأصحاب الرأي، أن يثروا هذه الورقة بأفكارهم وملاحظاتهم وتجاربهم.. لعلنا نصل إلى دراسة متكاملة تفيد أداء المؤسسات الإعلامية للحركة الإسلامية.
أسأل الله أن ينفع بما قدمت.. وأن يلهم مؤسساتنا الإعلامية لتقدّم إعلاماً محترفاً، يرتقي إلى قيمة المشروع الإسلامي الذي تحمله.

بيروت 7/5/2015م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق