3/15/2007

اللبناني.. وعـقـَده النفسيّة

بقلم: أيمن المصري

تسنّى لي المشاركة في دورة صحافية نظمتها السفارة البريطانية في بيروت بالتعاون مع مؤسسة "ثومسون فونديشن" الدولية حول "صحافة التقصّي"، شارك في تقديمها صحافيان بريطانيان. وقدّر الله أن تضمّ الدورة مشاركين من طوائف متعددة، ما يعني تالياً: "ناس من جماعة السلطة وناس من جماعة المعارضة". ووجدت أنه مزيج طائفي وسياسي مميز، يستأهل رصداً على مدى ثلاثة أيام.
بدا مشهد اليوم الأول هادئاً، أفلح فيه المشاركون بتقديم الشخصية الإعلامية المهنيّة، بعيداً عن أيّ انتماء سياسي أو طائفي. لكن.. بدأ الفرز "المخفيّ" من اليوم الثاني، بعد أن طُلب من كل مشارك أن يعرّف عن نفسه وعن الصحيفة التي يمثّل. وإذا كانت الصحيفة مجهولة الانتماء أو الخلفيات الطائفية، فإن بعض المجاملات المبطنة وأسئلة التعارف في الاستراحات كفيلة بكشف المطلوب.
وبقدر ما كانت الدورة غنية بالفائدة المهنية للمشاركين، فإني أكاد أجزم أنها كانت تجربة مفيدة لن ينساها أخَوانا الصحافيان البريطانيان، عايشا فيها عن كثب تعقيدات تركيبة العقل اللبناني.. ولكَم استمتعت برصد ردّات فعل "هيلين" الصحافيّة وهي مندهشة فاغرة فاها من عقدة التسييس التي تسيطر على تفكير اللبنانيين.
لقد حرص الصحافيان على تجنّب طرح القضايا السياسية أو الطائفية (المفترضة) للمعالجة الصحافية.. لكن "على مين"؟ أنت في لبنان. فقضية تسمّم في مطاعم "الهواتشيكن" أخذت بعداً طائفياً تتعلق بمنافسة شركة من طائفة أخرى، وقضية تلوّث البحر في صيدا وأزمة الصيادين أخذت بعداً سياسياً يعود إلى من يتحمل مسؤولية حرب تموز. وحين أبدت "هيلين" استغرابها من عدم اكتراث أيّ منّا لملف "سرقة آثار بعلبك" بإجراء تحقيق صحفي عنه، ردّت إحدى المشاركات مبررة: "نحن لا نهتم بالسياحة ولا بنسبة دخول السياح إلى لبنان، فالمنفعة المادية تعود للحكومة وليس للشعب، ونحن لا ينالنا من الحكومة إلا الضرائب". وهنا شعرت زميلتها التي تجلس إلى جانبها أن سهماً قد وجّه إلى فريقها السياسي، فشمّرت مدافعة عن الحكومة وبدأت بتقديم الحجج عن مدى فائدة اللبنانيين من السياحة. ولم تجد "هيلين" بدّاً من حسم النقاش – قسراً - حين شعرت أنه قد يؤدي إلى توتير الأجواء.. وتوّج الموقف بأن غيّرت زميلتنا مكانها بعيداً عن الزميلة / الخصم.
وأراد "ديفيد – الصحافي الآخر" أن يقدّم نموذجاً عن كتّاب الأعمدة والرأي في الصحافة اللبنانية، فذكر الصحافي المغدور سمير قصير..
"سمير قصير؟! إنه خصم سياسيّ لنا"، هكذا فكرت إحدى المشاركات، فردّت على الفور: "وفي كمان جوزيف سماحة".
ماذا عن ملف التسوّل؟ إنها قضية إنسانية بحتة.. أراد "ديفيد" من خلالها أن يعرض نموذجاً لمقدمة التحقيق الصحفي.. وقدّر الله أن يدخل في هذا الوقت "علي" أحد عمّال الفندق، فاختار "ديفيد" – بكل براءة - اسمه ليكون بطل القصة تيمّناً به. لكن هذا استفزّ المشاعر الطائفية لأحد الحاضرين، فسأل بصوت منخفض: "ليش اختار اسم علي"؟
ويبدو أن فريق إعداد الدورة استفاد من تجربة دورة سابقة، فاقترح على الصحافيَين فكرة تشبع نهمنا – نحن المشاركين اللبنانيين - في الانقسام، دون أيّة خسائر، وهي فكرة "حزب الجبنة وحزب الشوكولا". وكان هذا الاصطفاف الموجّه سبباً في إضفاء جوّ من الانقسام المرح.
وأجدني هنا أستحضر مشهداً من مسرحية قديمة لزياد الرحباني "فيلم أمريكي طويل"، تعرض صوراً من يوميات الحرب الأهلية اللبنانية، يتحدث فيها أحد المرضى النفسيين عن عقدته لطبيبه، فيقول: "إذا تعرفت على واحد بالشارع لازم أعرف طائفته ولمين تابع…".
أقول: هل بات المواطن اللبناني أسير هذه العقدة النفسية؟ وهل تكرّس الاصطفاف في تركيبته، لا يهنأ له عيش من دونه؟!
بعيداً عن هذه الأجواء، أختم بموقف حصل في الدقائق الأولى من الدورة، حيث وزّعت "هيلين" (للتذكير هي الصحافية البريطانية) على كل مشارك ورقة A4 مطويّة وطلبت كتابة الاسم عليها بحرف كبير ووضعها على الطاولة، تسهيلاً في مناداتنا.. وقد فعلنا. وبعد قليل دخلت القاعة سيدة وجلست على أحد الكراسي الشاغرة، فتقدمت منها "هيلين" طالبة منها كتابة اسمها على الورقة، فسألتها السيدة: "أنا أكتب اسمي"؟ ردّت عليها "هيلين" بجدّية: "نعم، اكتبي اسمك على الورقة لو سمحت". فرضخت السيدة لطلب "هيلين"، وما أن قرأت "هيلين" الاسم حتى فغرت فاها – كانت تلك هي المرة الأولى وكرّت السبحة بعدها – وأطلقت صرخة واحمرّ وجهها خجلاً، حيث تبين أن تلك السيدة هي السفيرة البريطانية في بيروت.
أخيراً، رغم كل عقدنا النفسية، فإن "ديفيد" و"هيلين" أجمعا على أن لبنان نموذج فريد في التنوّع والحرية والثقافة.. لا يعرفه بلد عربي آخر..

فهل نقدّر هذه النعمة؟! ثم ننظفها من الشوائب التي علقت بها؟!



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق