1/06/2020

الحق النسبيّ في العمل السياسي.. التفاعل مع اغتيال سليماني نموذجاً

بقلم: أيمن المصري 

بعد اغتيال الرجل الإيرانيّ الأبرز قاسم سليماني، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي تعليقاً على الحادث، ففريق اعتبره المقاوم الأول وشهيد الإسلام والداعم الأساسي لفصائل المقـااومـة في فلسـطين.. في حين احتفل فريق آخر بمقتل سليماني لدوره في إزهاق أرواح الآلاف من المدنيين في سوريا والعراق، ولربما لبنان أيضاً.. وكما احتدمت الآراء في التعليق على تصنيف الرجل (مجاهداً أو مجرماً)، وقع هذا أيضاً في النظر لتفاعل فصائل مقاومة في فلسـطيـن مع الحدث، لاسيما الحركة الأبرز التي تنال شبه إجماع على نقاء رسالتها وعملها. واستدلالاً على صوابية سلوكها، استشهد بعض رموزها بما صرّح به الرئيس التركي المحبوب رجب طيب أردوغان عن سليماني. 

أمام هذا المشهد، أودّ تسجيل الملاحظات التالية: 
1- جاء في تعريف العمل السياسي أنه تحقيق المصلحة ضمن فنّ الممكن، وحين نتحدث عن العمل السياسي لجماعات ذات خلفية دينيّة، يكون التعريف: تحقيق المصلحة ضمن فنّ الممكن، بما لا يخالف الضوابط الشرعية. ونتوقف عند كلمة "المصلحة" لنقول إن المصلحة هي أمر نسبيّ يختلف من شخص لآخر، ومن جماعة لأخرى، ومن بلد لآخر.. وإذا كان صاحب المذهب الفقهي الأبرز الإمام الشافعي قد غيّر كثيراً من مسائل مذهبه بعد انتقاله من العراق إلى مصر، وهي الأحكام الدينية التي نتعبّد الله بها، وفيها من الأدلة القولية والفعلية.. فمن باب أولى إخضاع العمل السياسي لمبدأ النسبيّة باختلاف الزمان والمكان والمصلحة. وأتذكر مقولة المفكر الإسلامي الشيخ راشد الغنوشي عند سؤاله عن طرح فصل العمل الدعوي عن السياسي في العمل الإسلامي العام، قال حينها: هي فتوى خاصة بتونس، لحيثيات تتعلق بتونس، لا تلزم جماعات العمل الإسلامي في الأقطار الأخرى. 

2- في العمل السياسي – وليس العقائدي – ليس ثمة حق مطلق وباطل مطلق، ليس ثمة حليف دائم وعدوّ دائم.. الثوابت الفكرية ثابتة – وإن كانت هذه تخضع أيضاً للتطوير والتعديل – لكن الأداء السياسي والمواقف السياسية متحركة بحسب تقدير المصلحة العامة، وفق المعايير الدينية والأخلاقية.. والشواهد على هذا كثيرة. 

3- انطلاقاً من نسبيّة المصلحة المتحركة، قد تضطر جهة معيّنة لاعتماد موقف معين، تفرضه عليها ظروف واعتبارات خاصة بها. لكن هذا لا يلزم الجهات الأخرى، وبالتالي لا يمكن اعتبار هذا الموقف حكماً عاماً يمثل الصواب بالمطلق، بل هو موقف استثنائيّ لجهة لديها اعتبارات استثنائية. التعميم هنا أمر خاطئ. وهنا يتوجب على الرأي العام المحبّ لهذه الجهة أن يقدّر ضرورات موقفها وخصوصيّة حالتها، فيمتنع عن جلد هذه الجهة وتجريحها، ولربما إخراجها من دائرة العمل الإسلامي. 

4- الاعتبارات الخاصة التي تدفع جهة معيّنة لاتخاذ موقف تكتيكيّ غير مبدئيّ في قضية ما، هذا الواقع يفرض عليها أن تدرس مساحة الضرورة، وبناءً عليه يجري تحديد سقف الاستثناء في الموقف، فيكون سلوكاً منطلقاً من الاعتبارات الخاصة، فينضبط سلوكها التالي بهذا التقييد، لا أن تفوتها حالة الضرورة الخاصة بها وتنساق في التأصيل العام للموقف، وتنكر على الآخرين عدم تبنّي الموقف نفسه، فضلاً عن رفض النقد لموقفها. 

5- يتعاطى البعض مع حالة الرئيس المحبوب الطيب أردوغان أن سلوكه السياسي يشكّل معياراً لقياس الصح من الخطأ في الأداء السياسي، وهذا أمر خاطئ، فالرجل أولاً ينطلق من مبدأ تقدير المصلحة الخاصة ببلده ومشروعه، والمتابع يلاحظ تحرّك موقفه يميناً أو يساراً في قضايا عديدة، في الشأن السوري أو الإيراني أو الأمريكي.. وثانياً، خيارات الرئيس أردوغان ليست وحياً من السماء، هي اجتهادات سياسية تخطئ وتصيب. يجب علينا أن نخرج من سلوك التبعيّة العمياء للأشخاص أو الأحزاب. فلنتوازن في حبّ أردوغان. 

6- ما ورد أعلاه من فعل دراسة الاعتبارات الاستثنائية وخصوصية الحالة، كي يبنى على أساسه اتخاذ الموقف الاستثنائي بالسقف الدقيق.. هذا الأمر منوط بجهات متخصصة تتمتع بكثير من الدراية بالعلوم السياسية والشرعية، بالإضافة إلى الاضطلاع بقواعد فقه الموازنات والأولويات، وهو ما يعرف بعلم "السياسة الشرعية"، فتقدير المصلحة هنا يتداخل فيه فقه السياسة والدين والمشروع. وبالتالي على الكثير منا أن يتواضع في إصدار الأحكام السطحية، فالأمر أعقد بكثير مما نظنّ. 

7- على جماعات العمل الإسلامي والفصائل المقاومة في فلسسطين أن تكون أكثر تقبّلاً للنقد والآراء المخالفة، فموقعها الذي هي فيه لا يمنحها امتيازاً عن غيرها بل يضعها أمام مسؤولية كبيرة، فضلاً عن أن خياراتها هي بالنهاية اجتهادات بشرية تخطئ وتصيب، وسلوكها لا يدرك خلفياته جميع الناس.. وإلا فقد وقعت بما تنكره على حكام الأنظمة المستبدّة: (إن أريكم إلا ما أرى). 

8- وأخيراً، على تلك الفصائل أن تحترم مشاعر شعوب تنظر لقاسم سليماني أنه سبب أساسيّ في مآسيها وفي مقتل الكثير من أحبابها وأقربائها وأهل وطنها.. فلا توغل في التفاعل الإيجابي، ولا تتجاوز سقف خصوصية الحالة. 

بيروت 5/1/2020

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق